العراق مخيم لاجئين عملاق

المقاله تحت باب  قضايا
في 
18/08/2010 06:00 AM
GMT



هذا وصف تشاركت مع ابن خالتي عدي في صياغته كقراءة لحال العراق. كان يصحبني الى ميناء ام قصر، لأنني ألح في رؤية البحر، والبحر قريب منا، لكننا نشم رائحته ونأكل أسماكه وربما نتعذب برياحه الشرقية "الشرجي" دون ان نراه. البحر يأتي إلينا بكل منتجاته لكن ابناء البصرة لم يروه، وظلوا ينتظرون ان يأتي هو إليهم حتى فقدناه على نحو يصعب استرجاعه الا بقرار دولي عسير.

لدينا 60 كيلومترا على البحر لكننا لم نرها لا في العراق الملكي ولا الجمهوري ولا "العراق الجديد". هل هناك مثال أسوأ على انعدام التنظيم؟ ونحن في الطريق استرجعنا ذكريات موجعة عن مخيم لاجئين في ايران شاء القدر ان نمضي شطرا من مراهقتنا بين أسواره. سألني عدي: كيف تتذكر أيام مخيم اللاجئين. انتبهت الى ان تلك الايام الصعبة، تحاصرني اينما ذهبت في العراق. كل الاشياء التي اشاهدها هنا تحيلني الى اجواء المعسكر، لكنه عملاق هذه المرة بـ 30 مليون نسمة.

ما اعادني الى هذه المقارنة، تقرير اعدته وكالة اصوات العراق يتحدث عن مواطنين يريدون الانتقال من بيت الى آخر، فيتكدس اثاثهم المنقول في نقاط التفتيش اياما او اسابيع بسبب قيود على حرية الحركة. نعم انهم يتنقلون داخل معسكر لاجئين عملاق، ولذلك فعليهم التعامل مع قيود غير معقولة ابدا.

في مخيم "اشرفي اصفهاني" على اطراف ديزفول، كان خروج العراقي الى السوق يتطلب معاملة طويلة وعريضة للحصول على اذن. انهم يسمونه "برك تردد" اي ورقة تجوال "عدم تعرض". وبدونها كان يمكن ان يعثر عليك شرطي فيلقي بك في السجن بتهمة التواجد داخل ايران. في الليل حظر تجول داخل المخيم، وحين يراك الشرطي يصرخ بك: برو، اي اذهب، وهناك أسوار و"باب نظام" و"تشيك بوينت".

لم يكن هناك منفذ للعمل. كيف نعيش؟ جاءت الامم المتحدة وصارت توزع على اللاجئين الثلج والخبز والمعلبات، والباقي يتكفل به ما تبقى من مدخرات العوائل التي تركت كل شيء وجاءت بخطوة جنونية الى ايران بعد انتفاضة 1991.

كان لدينا اشخاص يشغلون منصب "مسؤول الشارع" يتولون الاشراف على توزيع الثلج والخبز والمعلبات. هناك 11 شارعا في المخيم و11 مسؤولا عن تلك الشوارع، يأخذ كل منهم حصة اكبر من الثلج وأقراص الخبز. اما الغنيمة فهي المعلبات التي يمكن اعادتها الى سوق ديزفول كي تباع بمبلغ جيد. لا صلاحيات لدى مسؤول الشارع سوى اخذ حصة اكبر من تلك التي يحصل عليها اللاجئ العادي.

الكهرباء في ايران لم تكن تنقطع، لكنها كانت تأتي لبيوت اللاجئين ساعة وتختفي 5 ساعات. بلاد فارس تقيس الاشياء بمقياس دقيق وتمنحك الكهرباء بقدر ما تدفع الامم المتحدة "البخيلة".

مسؤولو شوارع المخيم حاولوا تقليص حالات "الهدر والسرقة" وعينوا "مسؤول هيئة نزاهة" لكنه حار مع "غيلان قوالب الثلج وتجار المعلبات". حاولوا ان يتفاوضوا مع الجانب الايراني "كي نشتري الكهرباء" ولم يصلوا الى تفاهم فبقي آلاف العراقيين بلا كهرباء اكثر من 10 اعوام حتى عادوا الى بلدهم عام 2003، فاكتشفوا انهم انتقلوا من مخيم لاجئين الى مخيم آخر بلا كهرباء.

اكتشفنا ايضا ان مفاوضاتنا مع الجانب الايراني حول الكهرباء والثلج في مخيم اللاجئين، ستتواصل ولا تنقطع في العراق اذ سيظل "ضابط المخابرات" المسؤول عن امن المخيم هناك، مسؤولا عن ملفنا في "المخيم العراقي الكبير".

في العراق "18 شارعا عملاقا" لكل منها مسؤول. وقوالب الثلج وأقراص الخبز والمعلبات، توزع على الشعب وتستثنى منها حصة المسؤول. هناك ايضا امم متحدة تشرف على كل شيء، عدا وفرزا وثلجا وخبزا وبندا سابعا. هناك مليون نقطة تفتيش وباب نظام. والمشكلة تبدأ حين يختلف "مسؤولو الشوارع" وتذوب "قوالب الثلج والنفط" ويفكر العامل الدولي، بالانسحاب السريع.

بعد الانسحاب، سنبقى في مخيم اللاجئين ذاته، حيث يعجز اي مستثمر عن القيام بعمل حقيقي بسبب غياب ظروف الحياة الطبيعية، وقواعد اللجوء والتخييم التي لا يمكنه التكيف معها. بعد الانسحاب ستختفي الأمم المتحدة، ونبقى محاصرين بين مسؤول الشارع الذي يهمه بيع المعلبات "الفائضة" على ارصفة ديزفول، والضابط الايراني الذي يصيح بوجهي كلاجئ مخضرم: برو. اي اذهب. اما الكهرباء فستبقى "تيارا" يليق بمخيم الابطال الصامدين. قس على هذا اكوام القمامة وفوضى منح الـ"برك تردد"، وطقوس توزيع الخبز.

الشيء الوحيد الذي كان مجانيا ومنتظما في المخيم هو الأوراد الدينية. انها الامر الوحيد المنتظم والمجاني في العراق ايضا. مسؤول شارع "بارز" في المخيم كان يشارك في تنظيم تلك الاوراد بحرص شديد بعد ان يفرغ من بيع معلبات الامم المتحدة، على فقراء الايرانيين. كانت لدينا في المخيم "حرية تعبير" أيضا، لكن مسؤول الشارع لم يكن يعيرها اهتماما.

هل اصبح الوطن مثل بحر البصرة. لا احد يراه رغم ان الجميع يكتوون بعذابه ويشمون شواء لحمه بنار العنف؟ هل فقدنا الوطن بقرار دولي واستبدلناه الى الابد بمخيم لاجئين كبير، لايديره رجال دولة، بل "مسؤولو شوارع" يتخاصمون على قوالب الثلج وعلب الفاصولياء؟